دراسات إسلامية 

الكفاح ضد الاستعمار البريطاني وحركة الرسائل الحريرية

 

 

إعداد : د. محمود حافظ عبد الرب مرزا

جامعة جواهر لال نهرو بدهلي الجديدة

 

 

       وردت حكايات وروايات عديدة حول هذه الرسائل الحريرية . وذلك أن شيخ الهند مولانا «محمود حسن» كان يقوم بإرسال الرسائل الحريرية إلى أعضاء جماعته الموالين والمخلصين له ؛ حيث كان هؤلاء الأعضاء ملتزمين ببدء أعمال معادية وإنشاء ثورة ضدّ الحكومة الإنجليزية . وقد تمّ تحديد وقت محدد ومعين لذلك ؛ ولكن لسوء الحظّ ظهر هذا السرّ على الإنجليز؛ حيث إن هذه الرسائل كانت قد جُهِّزَتْ بطرقة خاصة، وإذا ما تمّ سحب بعض خيوط هذه الرسائل الحريرية لبرز توقيع مولانا «محمود حسن» (1). وقد كانت هذه الحركة بمثابة حركة كفاح من أجل تحرير البلاد من أيدي المستعمرين الغاشمين علمًا بأنه قبل الحرب العالمية الأولى، كان العالم منقسمًا إلى فئتين؛ لذا فإن أبناء البلاد المساهمين في حركة تحرير البلاد كانوا منقسمين إلى فئتين أيضًا، فئة معتدلة وفئة متشددة، قد حاولت الجماعة المتشددة أن تستغلّ انتشار العالم؛ لذا قامت بتجهيز وإعداد برامج يمكن بواسطتها الحصول على تأييد الجماعة المعارضة للبريطانيين ، ومحاولة ترغيبها بشنّ حملة على الهند ، والقيام بالتمرّد على الحكومة الإنجليزية في الوقت المناسب؛ لأن الحكومةَ الإنجليزية المنهمكة في الحرب العالمية الأولى لم يكن بمقدورها مقاومة هذين التيارين الجارفين ؛ فيصبح الطريق أمامَ أبناء البلاد مُمَهَّدًا لتحرير البلاد من أيدي المستعمرين . والطريقة الّتي تم اتباعها لإرسال المعلومات كانت بواسطة الرسائل الحريرية ، وكان يتمّ استخدام رموز سرّية فيها، وكانت هذه الرسائل لايمكن فهم محتوياتها إلاّ بطرق تقنية . كما كان يتمّ إرسال أبناء البلاد إلى كل من أفغانستان وتركيا وألمانيا للحصول على التدريبات العسكرية، وكان يتم جمع بعض التبرعات من محبّي الوطن لتعزيز هذه الحركة وتوطيد أساليبها .

       وشاء الله أن يكون أول تلميذ لدارالعلوم ديوبند «محمود حسن» زعيمًا من زعماء الهند في جهادهم ضدَّ القوة المستعمرة؛ حيث إن حركة مولانا «محمود حسن» شيخ الهند التي عرفت باسم «حركة الرسائل الحريرية»؛ لأنه اتخذ المناديل الحريرية وسيلةً للاتصال بأنصاره من كل مكان، وقد أُلْقِيَ القبضُ عليه وهو في الحجاز سنة 1917م بعد أن اتصل بالقُوَّاد الأتراك «أنور باشا» و «جمال باشا» واتفق معهما على وضع خطة لطرد الإنجليز من الهند إبّان الحرب العالمية الأولى(2)؛ حيث يقول العلامة «أبو الحسن علي» الندوي :

       «كان – رحمه الله – من كبار الحاقدين على الحكومة الإنجليزية، ولا نعرف أحدًا بعد «السلطان تيبو» من يبلغ مبلَغه من عداء الإنجليز والاهتمام بأمرهم، كما كان من كبار أنصار الدولة العثمانية التي كانت زعيمة العالم الإسلامي، وحاملة لواء الخلافة، وكان من كبار الدعاة إلى استقلال الهند، وتأسيس الحكومة الوطنية الحرّة، وكان من الذين ملكتهم هذه القضية وتفانىٰ فيها، وحاول الاتصال بحكومة أفغانستان ورجال الدولة العثمانية كـ«أنور باشا» وغيره. وقد أَسَرَتْه حكومة «الشريف حسين» سنة 1916م في «المدينة المنورة» وسلَّمه إلى الحكومة الإنجليزية التي نفته وزملاءه وتلاميذه كـ مولانا «حسين أحمد المدني» ومولانا «عزيز غل» والحكيم «نصرت حسين» إلى جزيرة «مالطا» سنة 1917م ، ومكثوا هنالك إلى سنة 1920م» (3).

       وقد وضع «العلامة» خطةً سياسيةً للقضاء على حكم الإنجليز بالقوّة العسكرية، وربما يستغرب من ذلك كل من يعلم بأن الشيخ لم يزل عاكفًا على التدريس طوال حياته، سوى الفترة التي قضاها في المنفي؛ حيث أن المُتحَف البريطاني يحفظ الوثائق وتقارير مخابرات الحكومة البريطانية بالكامل وتفاصيلها عن هذه القضية التي كانت تعتمد وبشكل كلّي على القوة، واستخدام السلاح للقضاء على الحكم الإنجليزي الغاشم من الهند، وبالتالي من شتى أرجاء المستعمرات البريطانية .

       ومن أهمّ أعضاء هذه الحركة هم مولانا «عبيد الله» السندهي، والبروفيسور «بركت الله» بهوبالي، وراجا «ماهيندر برتاب سينغ» وغيرهم؛ فقد قام هؤلاء بتأسيس حزب انقلابي في مدينة «كابل» يمارس أعماله منذ عام 1905م. ومن أهم أهداف هذا الحزب، الحصول على تأييد العالم في تحرير الهند، ومؤازرة تركيا؛ لتقوم كل من قوّات تركيا وألمانيا بالهجوم على الهند. وفي هذا الشأن، تم إرسال وفد مشتمل على ثمانية أعضاء برئاسة كل من مولانا «مقبول الرحمن» السرحدي، و«شوكت علي» إلى الصين وبورما؛ فقام هذا الوفد بتأسيس إدارة باسم «سيرة» في الصين، وقام بإصدار مجلة شهرية باسم «اليقين» في كلتي اللغتين الصينية والأردية، ساهمت في تعزيز أواصر الصداقة بين أبناء البلاد والشعب الصيني(4). وفي عام 1909م قام هذا الوفد بالسير نحو بورما، وقام هناك بتأسيس منظمة باسم «الأخوة الإنسانية»، وواصل أعماله بغيةَ تحقيق الأهداف المنشودة إلاّ أنه بعد فَشْلِ هذه الحركة في عام 1916م، رجع «شوكت علي» إلى الهند.

       كما وصل وفد يشتمل على خمسة أعضاء بقيادة البروفيسور «بركت الله» بهوبالي إلى اليابان، وقام بتشكيل جماعة سُمِّيت بـ«الأخوة الإسلامية»، وقامت هذه الجماعة بإصدار جريدة يومية باللغة اليابانية والإنجليزية؛ حيث كان البروفيسور «بركت الله» بهوبالي مرتبطاً بإحدى الكليات اليابانية. وتمّ إرسال وفد إلى «فرنسا» بقيادة «تشودهري رحمت علي» بنجابي، وبعدها تمّ إصدار حكم يتضمن ضرورة توجيه البروفيسور «بركت الله» إلى باريس، فقام بإصدار جريدة يومية باسم «الانقلاب». وتمّ إرسال وفد مشتمل على سبعة أعضاء إلى «أمريكا» بقيادة «هرديال سينغ»، وطلب من البروفيسور «بركت الله» و «تشودهري رحمت الله» بالسير إلى أمريكا من جهاتهم لمساعدة «هرديال سينغ»، وبعد وصولهم إلى هناك قاموا بتأسيس جماعة باسم «جماعة غدر» وقام البروفيسور بإصدار جريدة يومية باسم الجماعة(5). كما قام «راجا ماهيندر برتاب سينغ» بأعمال هامة في برلين؛ حيث قضى هناك فترةً تزيد على أكثر من ثلاث سنوات، وبسبب جهوده اتّحدت كل من ألمانيا وتركيا. وتمّ إرسال وفد بقيادة «متهرا سينغ» والدكتور «خوشي محمد» (مرزا محمد علي) إلى روسيا أيضًا، ونظرًا لهذه المساعي، تمّ تشكيل حكومة هندية موقتة في «كابل» في عام 1915م، وكان رئيس هذه الحكومة «راجا ماهيندر برتاب سينغ»، وتمّ تعيين البروفيسور «بركت الله» كرئيس للوزراء، ومولانا «عبيد الله السندهي» كوزير للخارجية(6).

       ولتقوية القوات العسكرية في الهند، وإلحاق المتطوعين في مراكز التجنيد، تمّ إنشاء مراكز عديدة. وذلك في كل من «باني بت»، و«راندير» (غوجرات)، و«لاهور»، و«دين بور»، و«كراتشي»، و«أتمان زي» وغير ذلك. كما كان لهم مكان خاص لتخزين الأسلحة في «راجستان»، وكان بعض أعضاء حزب «الانقلاب» أعضاء معتمدين في هيئة الاستخبارات المركزية الذين كانوا يقومون بنقل الأخبار السريّة والهامّة إلىالمراكز، ويقومون بتوطيد أواصر الصداقة مع رجال القوات أيضًا، ولهذا الغرض كانت هناك جماعة خاصة باسم المخلصين أيضًا(7). وقد كانت هناك مراكز هامة لهذا الحزب في بعض مدن دول العالم نحو «المدينة المنورة»، و«القسطنطينية»، و«أنقرة»، و«برلين»، و«استنبول» لتحريض بعض الدول على إشعال نار الحرب ضد الحكومة الإنجليزية، ومن أجل الحصول على التأييد المعنوي، والدعم العسكري منها، علمًا بأن المركز الرئيس لهذا الحزب، كان يقع في أفغانستان. وطبقًا للبرنامج الذي تمّ تخطيطه فإنه كان على القوات العسكرية الألمانية والتركية أن تقوم بالهجوم على الهند عبر طريق مدينة «كابل»، والوصول إلى مدينة «كراتشي». ومن الجانب الآخر أن تسير القبائل السعودية إلى منطقة «بشاور»، وتسير قبائل «غزني» و «قندهار» إلى منطقة «كوئته»، وتسير القبائل التي تعيش في المناطق الجبلية إلى منطقة «أوكي» (8). وطبقًا للبرنامج كان على جميع أبناء البلاد المخلصين أن يقوموا بالتمرّد والثورة ضدّ الحكومة الإنجليزية، ويخرج العساكر الهنود المخلصون للبلاد للقيام بعمليات التدمير، وتعطيل نظام السكك الحديدية، وهدم المصانع والمنشآت، والقيام بجميع أنواع هدم المصالح البريطانية في جميع أنحاء البلاد، وبذلك كان يتمّ بدء الثورة ضد الحكومة؛ لتصبح الحكومة غير قادرة في السيطرة على الحرب من الجهتين. ولهذا الغرض النبيل، تمّ تشكيل الجنود والعساكر باسم «جنود الربانية» بقيادة مولانا «محمود حسن» بالإضافة إلى مولانا «عبيد الله» السندهي، و«غاندي»، ومولانا «محمد علي»، ومولانا «شوكت علي»، ومولانا «أبوالكلام آزاد» (9). كما تمّ تحديد تاريخ إشعال نار الثورة. وذلك في 19 فبراير 1917م. وبما أنّه كان يتحتّم على القوات التركية والألمانية أن تجتاز أفغانستان لتصل إلى الهند، وكان هؤلاء المخلصون لا يريدون الاشتباك مع الحكومة الأفغانية في أية حروب؛ لذا كان مولانا «محمود حسن» يرغب في أن يحصل على معاهدة بين أفغانستان وتركيا من «أنور باشا» ويقوم بالتصديق عليها من قبل الحكومة الأفغانية، ثم يقوم بإشعار الحكومة التركية بذلك. ونظرًا لذلك كان «مولانا» يريد أن يسافر إلى تركيا إلاّ أنه ولسوء الحظّ استطاع الإنجليز أن يدركوا خطّتَه، فخرج مولانا «محمود حسن» مع بعض رفقائه إلى الحجاز، وفي «مكة المكرمة» استطاع «مولانا» أن يقابل الحاكم المقيم في مكة المكرمة ويحصل على تعاونه، وحصل على ثلاث رسائل من قبله، كانت من بينها رسالة إلى مسلمي الهند بشأن إشعال نار الجهاد ضد الحكومة الإنجليزية، والتي ذاع صيتها باسم رسالة «غالب». وكان المقصود من تلك الرسالة نشرها بين القبائل المستقلة في «الهند» و«أفغانستان» لكي تزيد هذه الرسائل مدى الاعتماد بين أبنائها في مواصلة هذه الحركة، أمّا الرسالة الثانية، فكانت عبارةً عن رسالة إلى حاكم المدينة «بصري باشا» ليقوم بكل ما يستطيعه من أجل إرسال «مولانا» إلى «اسطنبول» بكل سلامة، أما الرسالة الثالثة، فكانت باسم «أنور باشا» ليقوم بسدّ جميع احتياجاتهم(10). والتقى في «المدينة المنورة» بوزير الدفاع التركي «أنور باشا» وحاكم سوريا «جمال باشا»، وكتب «أنور باشا» أيضًا بضعة رسائل للحثِّ على الجهاد التي عرفت بخطوط «أنور» (أنور نامه) وكان فيها الالتزام بضرورة مساعدة هذه الحركة. وقد أخذ مولانا «محمود حسن» رسائل من «أنور باشا» و«جمال باشا» في تأييد قضية الهند وكفاحها ضد الإنجليز، وحث الرعايا التركية على مساعدة مولانا «محمود حسن»، وقد دسها أصحاب الشيخ في جوف ألواح صندوق خشبي، وملأه بقماش الحرير وقاموا بإرساله إلى الهند حيث وصل إلى أصحابه. ومن هنا اشتهرت القصة بالرسائل الحريرية(11).

       وبعد أداء فريضة الحج قام مولانا «محمود حسن» بإرسال الرسالة الخاصة بالحثّ على الجهاد إلى شبه القارة الهندية، بواسطة مولانا «محمد ميان» أحد أعزاء مولانا «قاسم» النانوتوي. ورغم المحاولات العديدة التي بذلها قسم الاستخبارات المركزية الإنجليزية، فإن هذه الرسالة وصلت إلى القبائل بكل سهولة ويسر، كما ساهمت منظمة «حزب الله» التي أنشأها مولانا «أبوالكلام آزاد» في نشر هذه الفتاوى ، وبذلك أُطْلِقَ على الهند اسمُ «دار الحرب»، وهي من إحدى عوامل ظهور حركة الهجرة ، والتي كانت تهدف بأن يقوم معظم أبناء الهند بالهجرة إلى «أفغانستان» لتعزيز الحركة الانقلابية المسماة بـ«الرسائل الحريرية» والمشاركة فيها. وتمّ وضع المعاهدة التي جرت بين «أفغانستان» و «تركيا» في صندوق خشبي بصورة محكمة، وتمّ إرسالها إلى الهند بإبلاغ مولانا «هادي حسن» و «حاجي شاه بخش»؛ ليتمّ إرسالها إلى «محمد نبي» الذي تمّ إرشاده بضرورة إرساله إلى حاجي «نورالحسن» الدهلوي الذي كان عليه أن يقوم بأخذ صور عديدة للرسالة التي تحث على الجهاد، ويقوم بإرساله إلى مختلف المراكز، ويقوم بإرسال المعاهدة التي جرت بين أفغانستان وتركيا إلى أفغانستان(12).

       ولكن إرسال هذه الرسائل من الحجاز إلى أفغانستان لم يكن سهلاً، حيث استطاع قسم الاستخبارات المركزية الإنجليزية القيام بإيقاف هذا المشروع؛ فعندما وصلت السفينة البحرية إلى ميناء «بومباي»، قامت الشرطة بإجراء تفتيش شامل ودقيق على السفينة؛ ولكن عند عدم حصول الشرطة على أيّ شيء قامت بإلقاء القبض على مولانا «هادي حسن» و«خليل أحمد»، ووضعتهم في سجن مدينة «نيني تال». وقامت الهيئة السرّية بتفتيش بيت مولانا «نبي» في مدينة «مظفر نغر»، وكذلك بيوت «حاجي نورالحسن» و «مرزا أحمد المصور» أيضًا؛ ولكن الشرطة لم تجد شيئًا. وتنقَّلَتْ هذه الأوراق من يد إلى أخرى حتى تم الإفراج عن مولانا «هادي» الذي قام بإرسال تلك المعاهدة إلى أفغانستان.

       وعندما وصلت مستندات المعاهدة إلى «أفغانستان» وإلي البلاد، قام أمير «حبيب الله خان» بعقد جلسة لتقديم هذه المستندات فيها، وشارك فيها كل من أعضاء الحكومة والضباط، وزعماء القبائل، كما اشترك فيها مولانا «عبيد الله» السندهي كممثّل للجماعة الانقلابية الهندية. وبعد مناقشات عديدة اتفق المجلس على ضرورة شنّ الحرب . وذلك على أن تقوم القوات التركية بالهجوم على الهند عبر الطرق المتفق عليها مسبقًا، ولن تشارك الحكومة الأفغانية في الحرب بشكل مباشر؛ ولكنها لن تقوم بوضع أية عوائق أمام الشعب بالمشاركة فيها، وتقوم الحكومة الأفغانية بتبرئة نفسها بواسطة ادعائها بأن القبائل تحاول أن تثور عليها(13). وقبل اتخاذ أية خطوة أخرى كان عليهم إبلاغ شيخ الهند مولانا «محمود حسن» الذي كان في الحجاز آنذاك؛ فلذا قام النائب الحاكم «نصر الله خان» ومولانا «عبيد الله» السندهي بكتابة الرسائل الحريرية لهذا الغرض، المشتملة على تفاصيل الخطة المرسومة.

       وبِغَضِّ النظر عن هذه المعاهدة، فإنه كانت هناك رسالة لمولانا «عبيد الله» السندهي باسم شيخ «عبد الرحيم» (الأخ الحقيقي لـ«أجارية كربلاني») الذي كان لابد أن يتمّ إرسالها إلى الحجاز بواسطة شخص معتمد عليه. أما الرسالة الثانية، فقد كانت باسم شيخ الهند «محمود حسن» المشتملة على المعاهدة بين الحكومة الهندية الموقتة وحكومة أفغانستان والتفاصيل الأخرى. أما الرسالة الثالثة، فإنها كانت باسم مولانا المذكور المشتملة على مواصفات السفر من «جدة» إلى «كابل» وتقرير عن «غالب نامه»، وكان يجب أن يتمَّ إرسالها إلى الحجاز عبر الأراضي الهندية، ولإنجاز هذه المهمة، فوّض هذا العمل إلى تاجر للثياب والأقمشة يقوم بإدارة أعماله التجارية بين الهند وأفغانستان، يسمى شيخ «عبد الحق». ورافقه «محمد علي» ابن أخ مولانا «عبيد الله» السندهي الذي حمل معه رسالة مقدمة من قبل «راجا ماهيندر برتاب سينغ» إلى أحد الأثرياء الهنود للحصول على تبرع مالي منه، وتكلَّلت مهمّة «محمد علي» بالنجاح حيث عاد بأموال طائلة إلى «كابل». وقام الشيخ «عبد الحق» بشراء أكثر من ستين منديلاً حريريًا من نوعه ووضع تلك الرسائل الحريرية فيه ثم اتجه إلى الهند؛ ولكنه نظرًا للأسئلة الكثيفة التي كان يطرحها عليه رجال الشرطة في «بشاور» اضطر إلى أن يعطي تلك الرسائل إلى «حق نواز خان» الذي قام بإرسالها إلى «خواجه غلام» في اليوم الثاني، وقام «الثاني» بإرسالها إلى شيخ «عبد الرحيم» الحيدر آباي (السند)، وفي هذا الأثناء قامت الشرطة بإجراء تفتيش لبيوت كل من «حق نواز خان» و«خواجه غلام»، وتمّ إلقاء القبض عليهما، وحاولت الشرطة أن تحصل على معلومات منهم بالاستعانة بجميع أنواع التعذيب والتنكيل إلا أنهم لم يفشوا بأي سر أمامهم. وعندما كان شيخ «عبد الرحيم» على وشك الخروج بتلك الرسائل الحريرية حتى حاصرت الشرطة بيته، واقتحمت عليه؛ ففرّ الشيخ من بيته، ولم يدر أحد إلى أين اتجه إلا أن تلك الرسائل قد وقعت في أيدي الإنجليز، كما أن محاولة تحرير البلاد من الاستعمار الإنجليزي الغاشم الذي نظمه هؤلاء العلماء، والتي كانت على وشك التكلل بالنجاح باءت بالفشل، وظهرت جميع الأسرار على الحكام الإنجليز.

       كانت هذه الحركة تهدف إلى بذلك الجهود القصوى لإنهاء الحكم البريطاني من الهند حيث تحدثت بذلك لجنة إنجليزية عرفت باسم لجنة «رولات» وجاء فيها أن الحكومة كشفت هذه الحركة في أغسطس سنة 1916م التي كانت تهدف إلى إنهاء الحكم البريطاني من الهند بالهجوم على الحدود الشمالية الغربية من الخارج، والثورات الداخلية فجأةً في نفس الوقت(14). علمًا بأن هذا التقرير قد صدر عام 1918م و وُجِّهَتْ التهم إلى المسلمين بصفة خاصة ، واتهموا بقيامهم بالثورة.

       وبعد انكشاف هذه الحركة اقشعرت الحكومة الإنجليزية وبدأت بعمليات التفتيش الكبيرة في جميع أرجاء البلاد، وقامت بإلقاء البقض على مجموعة كبيرة من أبناء البلاد، حيث اعتقلت مولوي «أحمد علي»، و«عبد الله» و«أحمد جكولي»، وتمّ إلقاء القبض على «عبد الباري» و«شجاع الله» الذين كانوا يعملون في السفارة التركية والألمانية، حيث قامت الحكومة الروسية باعتقالهم وإرسالهم إلى الحكومة الإنجليزية، وتمّ إلقاء القبض على «مولوي مرتضى»، «سيد حسن»، «محمد مبين» و مولوي «مسعود» في ولاية «أترا براديش» الهندية، كما تمّ اعتقال أعضاء الحزب الانقلابي في «كابل» بإيماءة من قبل الحكومة الإنجليزية، وسُجِنَ مولانا «عبيد الله» السندهي في «منزل» وظلَّ هناك حتى مقتل «حبيب الله خان» (15). ورغم ذلك ظل مولانا «عبيد الله» السندهي يحاول بذلك جهوده في رسم الخطط للحصول علىالاستقلال من براثن الاستعمار الإنجليزي الغاشم؛ حيث استطاع بواسطة اللجنة الانقلابية الموجودة في «برلين» أن يحرض الجيش الهندي الموجود في «أنقرة» و«دمشق» و«القاهرة» على التمرد، كما نجح في إشعال نار العصيان والتمرد في المخيمات العسكرية في «البصرة» وفي أجزاء المشرق البعيد. واتجه مولانا «محمد ميان» من «كابل» إلى «باغستان» وسكنها. ورفعت القضايا في المحاكم ضد أكثر من 59 شخصًا ، ومنهم شيخ الهند «محمود حسن»، مؤسس هذه الحركة، ومولانا «حسين أحمد» المدني، ومولانا «عبيد الله» السندهي، ومولانا «أبوالكلام آزاد» ، ومولانا «محمد ميان» ، و«شجاع الله» ، ومولانا «حسرت موهاني» وغيرهم. وتم إدانتهم بالجريمة ومعاقبتهم بأشد أنواع العقوبات ، حيث تمَّ إلقاء القبض على مولانا «محمود حسن» و«حسين أحمد» المدني وبعض رفقائهم نحو: مولانا «عزيز غل»، وحكيم «نصرت حسين»، ومولوي «وحيد أحمد» وغيرهم. وتم نفيهم إلى جزيرة «مالطا»، ومعاقبتهم بأشدّ أنواع العذاب، ولم يرجعوا إلى «بومباي» إلا بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف . وذلك في عام 1920م .

       إن هذه الحركة تُعْتَبَر حركة ذات أهمية فائقة في تاريخ كفاح أبناء الهند في تحرير البلاد من أيدي الاستعمار الإنجليزي؛ حيث اتّسمت بكونها حركة جريئة ومنظمة بشكل محكم؛ ولكن بسبب ظهور سر الرسائل الحريرية قبل الوقت المحدد والمعين لها، واعتقال المرتبطين بها والمسؤولين عنها، عمل على فشل هذه الحركة إلا أنها ظهرت على مظاهر أخرى مختلفة مثل حركة الهجرة، ثم ظهرت باسم «حركة الخلافة»، وحركة عدم التعاون والموالاة، ولم تلفظ أنفاسها الأخيرة حتى استطاعت أن تخرج المستعمرين من الهند وأرجائها.

       إن خطة مولانا «محمود حسن» المعروفة التي لم يتحقق لها النجاح، لا يعني بأنها باءت بالفشل ، فقد بقيت جمرات هذه الحركة باقيةً ومشتعلةً، وبعد انتقال الشيخ إلى رحمة الله كان تلاميذه وأصحابه دائبين متواصلين في هذا الجهد وعلى رأسهم مولانا «حسين أحمد» المدني؛ حيث كان خليفة الشيخ في السعي لاستعادة مجد الإسلام في الهند، والإخلاص لها، والتفاني في سبيلها، والعداء الشديد للإنجليز، والحماس للقضية الوطنية حتى أسعدهم الله بتحرر هذه البلاد ، وتخلصها من أيدي ألدّ أعدائهم واستقلالها(16).

       هذه هي الحركة التي عُرِفَتْ بحركة الرسائل الحريرية في تاريخ كفاح الهند لنيل الاستقلال من الاستعمار الأجنبي الغاشم، علمًا بأن وثائق الخطة التي تم وضعها والبرامج المتعبة من خلالها تدلّ على حنكة «شيخ الهند» السياسية، وبصيرته الفذة، ولم يقدر الله النجاح لها التي لو تحققت لتغير مجرى التاريخ في شبه القارة الهندية.

*  *  *

الهوامش :

(1)          قاضي محمد عديل، تحريك خلافت ، ص 66.

(2)          عبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند ، ص 124.

(3)          أبو الحسن علي الندوي ، المسلمون في الهند ، ص 162.

(4)          مولانا عبد الرحمن، تحريك ريشمي رومال ، ص 138.

(5)          مولانا عبد الرحمن، تحريك ريشمي رومال ، ص 138.

(6)          قاضي محمد عديل، تحريك خلافت ، ص 66.

(7)          خالد هندي، ريشمي رومال تحريك ، ص 57 (مجلة «هدى» دائجست دهلي ، فروري 1968).

(8)          مولانا عبد الرحمن، تحريك ريشمي رومال ص 73.

(9)          شهباز حسين، مجلة «آج كل» ص 42، دهلي، جون 1969م.

(10)      مولانا سيد حسين أحمد المدني، «نقش حيات» المجلد الثاني، ص 214.

(11)      أبو الحسن علي الندوي، المسلمون في الهند ، ص 162.

(12)      مولانا عبد الرحمن، تحريك ريشمي رومال ، ص 194 (دهلي 1970م).

(13)      خالد هندي، تحريك ريشمي رومال ص 100 (مجلة «هدى» دائجست دهلي ، فروري 1968م).

(14)      عبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند، ص 124.

(15)      د. مختار أحمد المكي، تحريك آزادي أور هندوستاني مسلمان، ص 141.

(16)      محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي، «دارالعلوم ديوبند» ص300.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1427هـ = سبتمبر 2006م ، العـدد : 8 ، السنـة : 30.